يرفض الرئيس بوش أن يضمن ما أسماه ''خطة النصر'' جدولا زمنيا لانسحاب قواته المسلحة من العراق، على أساس أن مغادرة هذه القوات قبل الأوان يمكن أن تحيل البلاد إلى ''ملاذ آمن للإرهابيين، وإلى قاعدة انطلاق للهجمات على الولايات المتحدة الأميركية''·
والحقيقة أنني أرى عكس ذلك تماما· فإقناع بعض العراقيين السنة الذين يمثلون العمود الفقري للتمرد في العراق، بأن قوات الولايات المتحدة ستعود إلى بلادها عاجلا وليس آجلا، يعتبر شرطا لازما لتفكيك الشبكات الإرهابية التي يقودها أبو مصعب الزرقاوي الأردني الأصل، وزعيم ''''القاعدة'''' في بلاد الرافدين، كما أنه سيؤدي إلى تأمين السلام في هذا البلد الذي مزقته الحرب·
فوجود القوات الأجنبية لم يؤد إلى انقسام العراقيين، ولم يشكل وقوداً للمقاومة المحلية المسلحة فحسب، ولكنه منح زخما لـ''القاعدة''، كي تقوم بتأسيس موضع قدم لها في قلب المناطق السنية·
والعراقيون أنفسهم متلهفون على رحيل قوات التحالف· فعلى سبيل المثال تبين من استطلاع جديد للرأي أجرته عدة مؤسســات خبريــة كانـــت مــن بينهـــا الـ'' آيه· بي· سي'' ومجلة'' تايم''، أن ثلثي عدد العراقيين قالوا إنهم يعارضون وجود قوات الولايات المتحدة والتحالف، وإن 60 في المئة منهم يرفضون الطريقة التي تصرفت بها الولايات المتحدة في العراق ويريدون من قواتها أن ترحل عن بلادهم قريبا· وطمأنة السُّنة أن الولايات المتحدة صادقة في عزمها على الرحيل من العراق يعتبر أمرا أساسيا، لإقناعهم بإلقاء أسلحتهم، والقيام بدلا من ذلك بمواجهة شبكة الزرقاوي·
وفي الشهر الماضي وفي لحظات نادرة من لحظات الإجماع، قامت الفئات العراقية السياسية الممثلة بما يزيد على 100 زعيم شيعي وسني وكردي، وبشكل جماعي، بالدعوة لوضع جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق، وذلك في مؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي عقد برعاية الجامعة العربية في القاهرة· وعلى الرغم من أنه لم يتم تحديد تاريخ معين للانسحاب، إلا أن الحديث عن الانسحاب في حد ذاته يعتبر لفتة رمزية مهمة من الشيعة الذين يسيطرون حاليا على الحكومة العراقية، تجاه السنة العرب الذين يشعرون الآن بالتهميش والحرمان من المزايا· وفي محاولة أخرى من جانب الشيعة والأكراد للتوصل إلى تسوية مع السنة، قام زعماء الجماعتين بإدانة الهجمات الإرهابية والدعم الديني لها، مع الاعتراف بشكل عام بالحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي، والتفريق في هذا السياق بين إرهاب الزرقاوي غير الشرعي و''المقاومة الوطنية الشرعية''·
وبعد اجتماع القاهرة، بدأ الزعماء ورجال الدين السنة الذين قام معظمهم بمقاطعة الانتخابات الأخيرة التي عقدت في شهر يناير، يحثون أتباعهم على المشاركة في الانتخابات، والتعبير عن معارضتهم للزرقاوي، وكانت الصيحة التي ارتفعت من جميع المساجد الواقعة في المناطق السنية، هي ضرورة المشاركة في الانتخابات حتى لا يتم تهميشهم· والانضمام إلى القوات العراقية في سياق مواجهتها لانتشار ''القاعدة'' أمر جوهري لتمهيد الطريق أمام الانسجام الاجتماعي، والديمقراطية المستقرة· وتشير التقارير إلى أن 10 أعضاء من الحزب الإسلامي العراقي قد قُتلوا منذ أن أعلن الحزب في أكتوبر الماضي عن مشاركته في السباق الانتخابي· وقد اتهم زعماء الدين السنة ''القاعدة'' بتنفيذ معظم عمليات القتل· وبعد اغتيال اثنين من كبار رجال الدين السنة الشهر الماضي، قامت هيئة علماء الفلوجة وهي مجموعة سنية بتوجيه إصبع الاتهام إلى أتباع الزرقاوي واتهموهم بأنهم'' متواطئون مع الاحتلال'' وهذه العبارات القوية التي جاءت على لسان رجال دين من التيار المتشدد، الذي يساند التمرد المستمر حاليا في العراق، تكشف عن مدى الانقسامات التي يتعرض لها أنصار الزرقاوي·
كما يكشف عن مدى هذه الانقسامات أيضا ما قام به ائتلاف مكون من رجال المقاومة الوطنيين في محافظة الأنبار عندما أصدروا بيانا مشتركا إلى أشقائهم السنة بالمشاركة في الانتخابات الأخيرة، مع تحذير رجال الزرقاوي من مهاجمة الناخبين، وكذلك ما أعلنه الشيخ محمود مهدي الصميدعي عضو هيئة علماء المسلمين السنية، عندما قام بدعوة العراقيين لمقاومة ليس فقط قوات الاحتلال الأجنبي، ولكن ''الإرهاب المقنع'' كذلك·
ويشار في هذا السياق إلى أن تنظيم ''القاعدة'' في العراق يفتقر إلى القدرة العسكرية، وإلى قاعدة التأييد العريضة، التي تمكنه من الاحتفاظ بموطئ قدم دائم هناك· ليس هذا فحسب بل إن هناك اعتقادا سائدا في أوساط العراقيين مؤداه أنه بمجرد انسحاب القوات الأميركية من العراق، فإن جماعة الزرقاوي ستتم مطاردتها إلى خارجه· ومنذ تفجيرات عمان التي تمت في بلد الزرقاوي الأم، فإن الرأي العام في العراق وفي غيره من الدول انقلب على أيديولوجية الجهاد العالمي·
إن اتفاق القاهرة الذي يمثل علامة محورية بارزة، قد جمّع الطوائف والجماعات العراقية معا، وقدم رؤية سلمية -توفر مخرجا من دائرة العنف- وهو ما يجب أن يترجم إلى عمل في مؤتمر أكبر بكثير لل